معرفة

عائشة عبدالرحمن تكتب: اللغة العربية وعلوم العصر

شهادةٌ تاريخيةٌ عن دور اللغة العربية واتصالها بالتراث العلمي القديم: لماذا أُبعدت العربية عن التعليم العلمي؟ ولماذا أعادت موسكو نشر العلوم بالعربية؟

future أغلفة كتب: من اليمين «القانون في الطب للشيخ الرئيس ابن سينا»، «كتاب الجبر والمقابلة»، «الحاوي في الطب»

ما زال جيلُنا، منذ وعى، يسمع دعاوى عن عجز العربية عن أداء العلوم الحديثة، حتى كدنا ننسى ماضيها العلمي في عصر الحضارة الإسلامية وفجر العصر الحديث. ومنذ عُزلت عن الميدان العلمي تدريسًا وتأليفًا، صارت دعوى عجزها من المسلّمات البديهية التي لا تحتمل الجدل، ولم تفلح جهود نصف قرن في ردّ اعتبارها العلمي إليها، حتى عرّبت موسكو علوم العصر: فهل كنا نحرث في الماء؟!

تعريب موسكو علوم العصر

في صيف عامنا هذا، تلقيت رسالة من مطبوعات موسكو العربية، حسبتها أول الأمر مما ينشره المجمع العلمي للاتحاد السوفيتي من ذخائر تراثٍ لنا، يروي فيه رواد الفضاء أكفان موتى وأحافير أثرية من عصور غبرت، ولا يسمح بأن يجعل من اهتمامه بها موضوع جدل أو مناقشة، فمِمَّن قد يتصورون أن جهد المجمع العلمي يجب أن يُوفَّر كله للسباق الظافر إلى غزو القمر.

فلما نظرت في كتب هذه الرسالة من مطبوعات موسكو العربية، وجدتها جميعًا من صميم علوم العصر التي وُضعت لتكون مرجعًا للدارسين في الجامعات والمراكز العالية للتدريب الفني. وأوشكت أن أطرح هذه الكتب جانبًا، أو أتخفف من عبئها على خزانة كتبي، بالتماس من يهتم بموادها التي لا شأن لي بها ولا اتصال.

غير أني ما لبثت أن ذكرت ما أشتغل به من قضايا حياتنا اللغوية، فأقبلت على هذه المعرَّبات الواردة من موسكو، أحاول أن أستبين إلى أي مدى طوّع العلماء السوفييت لغتنا العربية، لأحدث ما وصلوا إليه في المجال العلمي والصناعي، بعد أن تحدثت في مادتها العلمية إلى عدد من صفوة علماء الاختصاص، وفي مقدمتهم عالمنا الحكيم الدكتور محمد كامل حسين، والدكتور أسامة أمين الخولي، وكيل هندسة القاهرة.

وكانت مفاجأة لي، أن أقرأ لغتي في هذه العلوم العصرية، سليمةً واضحةً، دقيقةً طيّعةً ميسّرةً، لا تتوقف ولا تتعثر. وأن أمضي في قراءة المواد العلمية التي انعزلت عنها طويلًا، مأخوذةً بلهفة من يكتشف فجأة أن أسرارًا من لغته غابت عنه.

بعد كل ما ضجّ به أفقنا العربي المعاصر، من دعاوى طنانة رنّانة، تؤكد عجز لغتنا عن أداء علوم العصر، وتبرر عذر جامعاتنا في الإصرار على تدريسها بلغة أجنبية، وتنذرنا بأن نظل حيث نحن، متخلفين عن العصر علميًّا وصناعيًّا، إن نحن جازفنا بتعريب العلوم استجابةً لعاطفة قومية ساذجة، لا مجال لها في عصر العلوم! فمبلغ علمي، أن جيلنا ما زال منذ وعى، يسمع هذه الدعوى تدوي كالطبول.

كيف استوعبت العربية علوم الأمم القديمة؟

فأما الذين جهلوا منا تاريخ الأمة فأيقنوا أنها حق لا ريب فيه، وأما الذين اتصلوا بماضي الأمة ودرسوا تراثها العلمي، فقد وقفوا في حيرة من أمر هذه العربية: من أين أصابها العقم، وهي التي استطاعت منذ عشرة قرون وأكثر أن تستوعب كل التراث الفلسفي والعلمي للأمم القديمة، وأن تنقل إلى المكتبة العربية ذخائر الفكر والعلم والثقافة لأعرق الحضارات التي عرفها التاريخ؟ وكيف يُعييها اليوم أن تنقل علومًا كان للعلماء العرب، في عصر الحضارة الإسلامية، مجد الزيادة فيها وتحريرها من المنهج التأملي الفلسفي الذي كان يسيطر على العقلية اليونانية في عصر قيادتها للفكر الإنساني، فيردّها إلى غيبيات مما وراء الطبيعة، مترفعًا أو عاجزًا عن التجربة العلمية بمنهجها الاستقرائي الدقيق وأجهزتها المعملية؟

ومن وراء ثلاثة عشر قرنًا، مضيت أساير التاريخ العلمي لأمتي، وأنا في أخذة العجب لهذه الكتب العلمية المطبوعة بالعربية في موسكو!

من القرن الأول الهجري _ السابع الميلادي _ بدأ اتصال العربية بالتراث العلمي القديم، في حركة ترجمة لكتب في النجوم، والفلك، والطب، والكيمياء، برعاية أمير من البيت الأموي، هو «خالد بن يزيد بن معاوية» الملقب بعالم بني أمية. على أن الترجمة لم تلبث أن أخذت في العصر العباسي الأول وضعًا رسميًا، تدخل في سياسة الدولة، وتعتمد على رصيد سخي من الخزانة العامة، وقد استوعبت الحركة في عصر الرشيد وولده المأمون ذخائر التراث الفكري والعلمي في الفلسفة والرياضيات والفلك والطبيعة، لليونان والفرس والهند ومصر.

ثم ما لبثت العقلية الإسلامية أن هضمت ذلك التراث وتمثلته، فأعطته روحًا جديدة، على نحو ما فعلت مدرسة الإسكندرية بالفكر اليوناني حيث هاجر إليها. وتلقى معجم العربية رصيدًا ضخمًا من المصطلحات العلمية المعرَّبة، إلى جانب الألفاظ العربية التي أمكن تطويعها للمصطلح العلمي. ولا يذكر التاريخ أن حركة إحياء التراث العلمي قد انتظرت طويلًا ريثما يستقر رأي المختصين على إمكان نقل العلوم إلى العربية، أو صدور فتوى من رجال الدين في جواز تعريبها.

تأييد العقيدة الإسلامية للعلم

وفي طمأنينة واثقة من تأييد العقيدة الإسلامية للعلم وتمجيدها للعقل، انطلق علماء الدولة الإسلامية ينظرون في الظواهر الكونية بعقلية متحررة من الخصومة العتيقة المريرة بين العلم والدين، فلم يمض قرن على تعريب التراث القديم حتى قدم هؤلاء العلماء جديدًا أصيلًا من العلوم الطبيعية والرياضية، ودخلوا التاريخ روادًا لآفاق لم يُستشرف لها من قبلهم.

ومن القرن الثالث الهجري _ التاسع الميلادي _ بدأت المكتبة العربية تتلقى أوليات الكتب العلمية التي ألّفها أولئك الرواد، فاستطاعت لغتنا أن تؤدي كل مصطلحات العلوم الرياضية في الحساب والجبر والهندسة والفلك، وأن تطوّع المصطلحات العلمية في الطب والصيدلة والكيمياء والطبيعة والنبات والحيوان والجغرافيا، كما تلقت المراصد الفلكية والمعامل التجريبية الأجهزة العلمية التي اخترعها علماؤنا، الذين تم على أيديهم نقل العلوم الطبيعية والفلكية إلى مجال البحث العلمي التجريبي، وكانت في التراث البابلي مختلطة بالسحر، وفي المدارس اليونانية داخلة في نطاق البحوث العقلية والدراسات النظرية والفلسفة التأملية.

وكل هذا مما لا يجهله دارسو التاريخ العربي والحضارة الإسلامية، وقد كان جديرًا بأن يصل إلى المنتمين منا إلى الثقافة الغربية، عن طريق المؤرخين الغربيين للحضارة والعلم. وهم قد شهدوا بأن المرحلة الرائدة لعصر العلم الحديث تمت على أيدي علمائنا في العصر القيادي للحضارة الإسلامية، واعترفوا بأن حركة الإحياء (الرينيسانس) التي بدأت بها النهضة الحديثة في أوروبا إنما قامت أساسًا على ما انتقل إلى الغرب الأوروبي من تراثنا العلمي الحضاري، على المعابر التاريخية الكبرى في العصر الوسيط: الأندلس، وصقلية، والدردنيل.

كما شهدوا بأن علوم الطب والرياضيات والفلك والكيمياء سارت في الغرب الحديث على الدروب التي عبدها رواد هذه العلوم من أعلام الدولة الإسلامية، وقد ثبت تاريخيًا أن أكثر مؤلفاتهم العلمية والفلسفية كانت تُدرَّس في جامعات أوروبية إلى القرن السابع عشر، في أصولها العربية أو مترجماتها اللاتينية التي تتابعت من القرن الثالث عشر الميلادي.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، يقرر تاريخ العلم أن رسائل جابر بن حيان (ت 198 هـ) التي ألّفها في الكيمياء باللغة العربية في القرن الثاني الهجري، عرفتها أوروبا في نصوصها العربية وفي ترجمات لاتينية ثم ألمانية (هولميارد Holmyard، م 1678)، ثم ترجمها إلى الإنجليزية (ريتشارد راسل R. Russel في طبعة لندن 1928).

وكتاب «حساب الجبر والمقابلة» الذي ألّفه أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي (ت 236 هـ) في أوائل القرن الثالث الهجري، نقله (جيرار الكريموني) إلى اللاتينية في القرن السادس عشر الميلادي، ثم نشر (روزن F. Rosen) نصه العربي مع ترجمة إنكليزية في طبعة لندن 1850، ونشر (ناجل A. Nagel) ترجمة الأبواب الخاصة منه بالحساب، كما وضع (جاندز S. Gandz) كتابًا عن مصادر جبر الخوارزمي.

وكتاب «الحاوي لصناعة الطب» الذي ألّفه طبيبنا أبو بكر الرازي (ت 311 هـ) من علماء القرن الثاني وأوائل الثالث الهجري، تحمل أقدم نسخة عربية منه في أوروبا تاريخ سنة 1282 بمخطوطات المكتبة الوطنية في باريس (الناسيونال)، وترجمه إلى اللاتينية جيرار الكريموني عام 1486م، ونص (رينو) في ترجمته الفرنسية لكتاب إدوار براون «الطب العربي» على أن كتب الرازي التي تُرجمت إلى اللاتينية بلغت خمسةً وعشرين جزءًا.

والجزء الخاص منه بالتشريح، والمعروف بالمنصوري _ أهداه إلى المنصور بن إسحاق والي خراسان _ نُشرت ترجمته في طبعة ميلانو 1481م، ثم نشره (كونينج P. Koning) مع أجزاء من كتاب «الكناش الملكي» لعلي بن عباس، و«القانون» لابن سينا، في طبعة ليدن سنة 1903، وترجمة (برونر W. Bronner) إلى الألمانية في طبعة برلين 1900.

ورسالته في الجدري والحصبة، وترجمها (فالا E. Valla) إلى اللاتينية في طبعة البندقية عام 1498م، و(جاك جوبيل J. Goupyl) إلى اليونانية عام 1548، وترجمها إلى الفرنسية (جاك بوليه J. Poulet) في طبعة باريس 1866، و(لوكلير، ولينوار Le

 

clere, Lenoir) في طبعة باريس سنة 1866. ونشر (جرينهل W. Greenhill) نصه العربي مع ترجمة إنكليزية في طبعة لندن 1848، كما نُشر النص العربي مع ترجمة فرنسية عام 1896، وترجمة (كارل أوبتز K. Opitz) إلى الألمانية في طبعة ليبزغ 1911.

وكتاب علي بن العباس (ت 383 هـ) «كامل الصناعة الطبية» المعروف بـ«الكناش الملكي»، الذي ألّفه بالعربية في القرن الرابع الهجري، تُرجم إلى اللاتينية في طبعة البندقية سنة 1492، ثم في طبعة ليدن سنة 1523.

وبصريات الحسن بن الهيثم (ت 422 هـ) التي ألّفها بالعربية في كتاب من سبعة أجزاء بعنوان «المناظر»، عُرفت مع غيرها من مؤلفات ابن الهيثم في ترجمات لاتينية في العصور الوسطى، ونشر (ريزنر Risner) ترجمة كاملة له بأجزائه السبعة عام 1573، كما نشر (كارل شوي K. Schouy) بالألمانية عام 1920 رسالة ابن الهيثم في استخراج القطب.

وكتاب «الأدوية البسيطة» للطبيب الأندلسي ابن الوفد نُشرت ترجماته اللاتينية نحو خمسين مرة، وكتاب «التصريف» للطبيب الأندلسي أبي القاسم الزهراوي (ت 411 هـ) تُرجم إلى اللاتينية في طبعة البندقية سنة 1497، ثم في طبعتي ستراسبورغ سنة 1532، وكان الجزء الخاص منه بالجراحة أساسًا للتعليم الجراحي بأوروبا لبضعة قرون، وقد نُشر نصه العربي مع ترجمة لاتينية في طبعة أكسفورد سنة 1778م.

وقانون «الشيخ الرئيس ابن سينا»، أبي علي الحسن (ت 428 هـ) في الطب، المؤلَّف بالعربية في أوائل القرن الخامس الهجري من خمسة أجزاء، ترجمه إلى اللاتينية جيرار الكريموني، ونُشر في طبعات ميلانو 1473، و(بادوا Padoa) 1476، والبندقية 1482، ثم أُعيد طبعه حتى بلغت طبعاته العشرين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ونُشر نصه العربي في روما سنة 1593م.

وكتاب الشريف الإدريسي (ت 457 هـ) «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» الذي ألّفه في صقلية في القرن الخامس الهجري، كان المرجع الجغرافي الأول في عصر النهضة، ونُشرت أجزاء منه في ليدن سنة 1866، وفي روما مع ترجمة إيطالية سنة 1883، وفي مدريد سنة 1901، وترجمة (دي ويه ودوتز M. D. Joeje, R. Doz) إلى الألمانية في طبعة أوبسالا سنة 1894.

ومفردات ابن البيطار (ت 646 هـ) في الأدوية، التي ألّفها بالعربية في كتابه «الجامع في الأدوية المفردة» في أوائل القرن السابع الهجري، عُرفت في نصها العربي بأوروبا في عصر النهضة، وتُرجمت إلى اللاتينية قبل أن ينقلها (فون زونتهايمر) إلى الألمانية في طبعة شتوتغارت (1840 _ 1842م)، و(لوكلير) إلى الفرنسية في طبعة باريس (1877 _ 1883م).

ثم لا أمضي في سرد ما أحيا الغرب من ذخائر تراثنا العلمي، الذي صدّ عنه المتفرنجون من مثقفينا، كونها من حفريات ماضٍ غبر، ومخلّفات موتى أفناهم البِلى، في الوقت الذي يشهد فيه مؤرخو الحضارة الغربيون، من أمثال سارتون، وويل ديورانت، والدوميليي، ونللينو، وأماري، وآدم ميتز، ولوبون، ودي بور، وأوليري، وبراون، وكراتشكوفسكي، وتوينبي، وسيجريد هونه، أن هذه الذخائر في أصولها العربية وترجماتها اللاتينية هي التي أضاءت للغرب مسراه من ظلمات العصور الوسطى إلى عصر النهضة والعلم الحديث.

وأدعُ تاريخ العصر الوسيط، فأرى لغتنا العربية قد سايرت التقدم العلمي، فاستطاعت في فجر العصر الحديث عندنا أن تأخذ دورها في مدارس العلوم العسكرية والهندسية والطبية والزراعية، في أوائل القرن الماضي. وحين اقتضت ظروف المرحلة الاستعانة بأساتذة من علماء فرنسا، (كلوت بك) الطبيب، و(فيجري) عالم النباتات، كان المترجمون يعرّبون مؤلفاتهم، ويحضرون معجمًا في قاعات الدرس لترجمة دروسهم إلى اللغة العربية التي ظلت لغة التعليم الرسمية إلى بداية عصر الاحتلال.

ولم يفكر أعضاء البعثات العلمية الأولى (من العرب) الذين أوفدوا إلى فرنسا لدراسة العلوم الحديثة، عند عودتهم إلى بلادهم، في أن يلقوا دروسهم على طلاب المعاهد العربية العليا بلغة أجنبية، بل قدّموا إلى مكتبتنا العلمية رصيدًا ذا بال من معرّباتهم ومؤلفاتهم.

ألّف الجرّاح الشهير محمد علي البقلي كتبًا عربية في الجراحة، ومحمد الشافعي في الأمراض الباطنية، ومحمد ندى في النبات والحيوان والجيولوجية والطبيعة، والصيدلي علي رياض في الصيدلة والسموم، ومحمد الدري في الجراحة والأمراض الوبائية، وسالم سالم في الطب الباطني، ومحمود الفلكي في التقاويم والمقاييس والفلك، ومحمد بيومي في الحساب والجبر والمثلثات والهندسة الوصفية.

وشارك علماء اللغة في هذه النهضة العلمية، فكان منهم خبراء متخصصون في تحرير الكتب العلمية وتصحيحها، منهم محمد عمر التونسي مؤلف «معجم الشذور الذهبية في الألفاظ الطبية»، وإبراهيم الدسوقي الخبير بمصطلحات العلوم الرياضية، ورفاعة رافع الطهطاوي، وأحمد فارس الشدياق، والمعلم بطرس البستاني في ألفاظ الحضارة والفنون.

وكان تراث هذا الجيل من العلماء المصريين بين أيدي المستشرقين العلماء الذين وفدوا على الشام في النصف الثاني من القرن الماضي، وشاركوا في هذه النهضة العلمية بتدريس العلوم الحديثة والتأليف فيها بالعربية. وقد اشتهر منهم الدكتور كورنيليوس فانديك، الذي درّس في بيروت بالعربية: الكيمياء، والجويات، وعلم الأرض.

وعُرفت مؤلفاته العربية: الباثولوجية في مبادئ الطب البشري، و«النقش في الحجر» في تسع مجلدات صغيرة، كل مجلدة منها موجز في علم من العلوم الحديثة، كالكيمياء والطبيعة والنبات والجيولوجية والفلك والجغرافيا الطبيعية. وله كتب عربية أخرى في الرياضيات، وأصول الجبر، والأصول الهندسية، وأصول علم الهيئة، ومحاسن القبة الزرقاء في الفلك.

والدكتور جورج يوسف قام بتدريس الجراحة والمواد الطبية والنبات باللغة العربية، ومن مؤلفاته فيها «المصباح الوضاح في صناعة الجراح»، و«الأقراباذين والمواد الطبية»، و«مبادئ التشريح والصحة والفسيولوجية»، وكتاب من جزأين في مبادئ علم النبات. وقد ألّف معجمًا قيّمًا باللغة الإنكليزية في «نبات سورية وفلسطين والقطر المصري وبواديها»، ذيّله بفهرس للأسماء العربية، فصحى أو عامية، لمصطلحات المعجم، عددها نحو ألف وخمسمائة اسم.

والدكتور يوحنا ورتبات علّم في كلية بيروت التشريح والفسيولوجية بالعربية، وألّف بها كتب التشريح، والفسيولوجية، وحفظ الصحة، ورسائل عديدة في مسائل طبية.

ولا أثر من هذا الجهد السخي المبذول يصل إلى حياتنا العلمية، ودعونا من حياتنا العامة التي التقطت من بعض مصطلحات المعجميين ما اتخذت منه موضوع فكاهة ومادة تندّر.

والمفروض أن جهود العلماء في نشر التراث العلمي لعصر ازدهار الحضارة الإسلامية، واستكمال الحركة العلمية في التأليف والترجمة لمطلع العصر الحديث في النصف الأول من القرن الماضي، كانت موجهة إلى تمكين اللغة العربية من استرجاع مكانها في تدريس العلوم والتأليف فيها، ونقل كل جديد مستحدث إلى المكتبة العلمية العربية. لكن الذي حدث هو أن الكليات العلمية في جامعاتنا ظلت بمعزل عن كل تلك الجهود، وتابعت تدريس الطب والهندسة والطبيعيات والرياضيات باللغة الإنكليزية أو الفرنسية، وكأن الجامعات في وادٍ، وجهود العلماء والهيئات في تعريف العلوم الحديثة ومصطلحاتها في وادٍ آخر.

باستثناء كلية الطب في الجامعة السورية، التي تأسست في دمشق سنة 1919، في عهد الملك فيصل الأول، باسم المعهد الطبي العربي لتحل محل كلية الطب التركية، وصُمّمت من عام تأسيسها على تدريس العلوم الطبية بالعربية. وكان مجلس أساتذتها أشبه بمجمع لغوي، تدارسوا فيه المصطلحات التي جاءت في تراثنا من مكتب الطب، وفي الكتب السرية التي ألّفها علماؤنا في عهد محمد علي، والكتب التي ألّفها أساتذة الطب في جامعة بيروت قبل أن تهجر العربية إلى اللغة الإنكليزية.

واستطاع أساتذة دمشق أن يؤلفوا كتبًا قيّمة في فروع الطب المختلفة، وفي الكيمياء والفيزياء والمواليد. فألّف الدكتور مرشد خاطر سفرًا في علم الجراحة من ستة مجلدات، وأوجزها في مجلدين. وألّف الدكتور أحمد حمدي الخياط كتابًا في علم الجراثيم، والأستاذ محمد جميل الخاني في علم الطبيعة، والدكتور حسني سبح في الأمراض الباطنية سبعة مجلدات، والدكتور محمد صلاح الدين الكواكبي في الكيمياء.

ولكن هذه التجربة الناجحة في العربية لم تتكرر، بل لم تستطع بعد أن طال بها الزمن أربعين عامًا أن تقنع جامعات مصر وبيروت والخرطوم بتعريب كلياتها العلمية.

وكانت المفارقة العجيبة أن جامعة الأزهر، أعرق جامعة إسلامية، وجامعة الرياض، عاصمة الجزيرة العربية، اعتمدتا اللغة الإنكليزية للتدريس، فيما استحدثتا من كليات علمية.

وبدا كأن قضية العربية وعلوم العصر قد وصلت إلى باب مسدود، ثم كان الفصل الأخير من هذه القصة المعقدة: رسالة من موسكو تحمل مجموعة من الكتب العلمية الحديثة، مطبوعة بالعربية الفصحى في دار مير للطباعة سنة 1968. ولم نسمع أن لجانًا عقدت لبحث مشكلات التغريب، أو أن جدلًا أُثير حول صلاحية اللغة العربية لاستيعاب علوم العصر!

وإنما خرج من كل كتاب يحمل اسم العالم الذي ألّفه:

ف. تسيجيليسكي: اللحام الكهربائي.

س. فومين: المرجع لملاحظي عمال الخراطة والعمال الفنيين.

ماليشيف، ونيكولاييف، وشوفالوف: أسس الميكانيكا العلمية.

أفروتين: أسس تشغيل المعادن.

جلاجوفا: الدوال ومنحنياتها.

ما أقسى الدلالة التي تعطيها هذه الكتب العلمية المطبوعة بالعربية في موسكو، بعد كل ما تضخم به رصيدنا من تقارير اللجان، ومؤتمرات المجامع، وجهود العلماء، على امتداد نصف قرن من الزمان! وما أبلغ هذا الفصل الختامي لما طال جدلنا فيه وتعقّدت أزمتنا به.

لقد بدأت القضية بعزل الاستعمار لغتنا عن العلم، ثم الدعوة إلى هجر لغتنا واستعارة الإنكليزية أو الفرنسية للعلوم الحديثة، وكأن هاتين اللغتين، دون الألمانية أو الروسية أو اليابانية مثلًا، هما المفتاح السحري لكنوز العلم. وانتهت بكتب دار مير للطباعة في موسكو، في عصر غزو القمر.

فأين نحن من البداية والنهاية؟

وحين أقول: انتهت القصة، فإني أعني أنها انتهت، أو يجب أن تنتهي، من حيث هي قضية لغوية ظلت مطروحة أكثر من نصف قرن، تواجه الأمة العربية بدعوى عجز لغتها القومية عن أداء العلوم الحديثة وقصورها عن نقل علوم العصر، وتلقي عليها تبعة تخلفنا العلمي وفاقتنا الثقافية.

ويبقى أن يلتمس الباحثون أسبابًا أخرى لاستمرار عزل اللغة العربية عن معاهدنا العلمية العالية، بعد أن خرجت دعوى عقم لغتنا وعجزها من مجال الخصومة والجدل، وظهر بوضوح أننا في تبرير موقف جامعتنا بهذا العقم في العربية، والتماسنا شتى الوسائل لعلاجه، كنا كمن يحرث في البحر.

وإذا كانت العربية قد صمدت لكل هذه الحملات الضارية التي جاءتها من الأجانب الغرباء ومن أبنائها المتغربين، تحاربنا باللهجات العامية حينًا، وبالخط اللاتيني حينًا آخر، وتتهمها بالبداوة والعقم، فتعزلها عن الميدان العلمي لتظل نائية بها عن روح العصر، أقول: إذا كانت العربية قد صمدت لهذه الحملات، فلأنها دون ريب تملك من القوة والحيوية والصلاحية للبقاء ما قاومت به محاولات المسخ، ورفضت نبوءة المتنبئين لها بالموت.

# اليوم العالمي للغة العربية # كتب

محمد جلال كشك يكتب: كفاح هادف
التاريخ لا يكتبه المنتصرون: عن السرديات المختلفة لتاريخ صدر الإسلام
اكتشاف الأدب المصري القديم!

معرفة